حين هاجر إلى عمان مالك بن فهم الدوسي إثر حادثة جرة لجاره مع أولاد أخيه عمرو بن فهم بن دوس بن عدثان بن عبد الله بن زهران، عندما كانا يعيشان معاً في ديار السراة في قرية الجبور بجوار جبل العرنين ، وبسبب هذه الحادثة تحول مالك بن فهم عن أخيه ولحق بعمان، ويحكي الأزدي تلك الحادثة فيقول: كان مالك بن فهم رجلاً جليلا في قومه شريفاً، وكان منزله بالقرب من العرنين( جبل إلى الآن يسما بذلك الأسم)، وكان سبب خروجه من السراة إلى عمان أنه كان له جار وكان له كلبه فرماها بنو أخي مالك بن فهم فقتلوها - وكانوا أعز من ولده - وكان له من الأولاد تسعة، فغضب وقال : لا أقيم ببلد يُنال فيه من جاري فلا أقدر أن أمنع عنه، ثم خرج هو وولده حتى نزلوا عمان، وفي ذلك يقول
ألا مـن مبلغ أبناء فـهـم .........................مغـلغـلة عـن الرجل اليماني
ومـبلغ منهبا وبنـي بشير .........................وسـعد اللات والحي الـمدان
تـحية نـازح أمـسى هواه ...........................بـجنح البحرمن أرض عمان
فحـلـو بالسراة وحل أهلـي .........................بأرض عمان في صرف الزمان
جنبنا الخيل من برهوت شعثاً ......................إلى تـلهاب مـن شرقي عمان
وبلعـرنين كـنا أهـل عـز .......................مـلكنا بـربراً وقـرى معان
وهاجر معه أخرون من بطون زهران من نسل غالب بن عثمان بن نصر بن زهران ، فما لبثوا أن انتشروا في نواحي عمان
وقام ومن معه من الأزد بإجلاء الفرس عن عمان وأصبح ملكاً لعمان واتخذ من مدينة قلهات عاصمه لملكه وقد حكم عمان أكثر من 70 سنة وسار فيهم سيره حسنه، وكان مالك قد أتخذ من أولاده حرساً له حيث كان يحرسه في كل ليلة واحداً منهم وكان يحب أصغر أولاده سليمة ويخصه بلعناية ويعلمه الرماية فغار منه اخوته وكادوا له عند أبيه وقالوا أن سليمة ينام أثناء حراسته لك فقام مالك بلتخفي للتاكد مما قاله أبنائه عن سليمة فاحس سليمة بصوت فرمى بأتجاهه فأصابه بسهمه فلما تكلم عرفه سليمة فقال أنا سليمه فقال مالك ولأمك الويل أحسبك والله قد قتلتني فادن فأحملني فحمله وانصرف بأخس كرة ولم يزل مالك وجعاً من رميته حتى مات سنة (480) قبل الهجره النبويه الشريفة (157م) وفي ذلك قال مالك جـزاه الله من ولد جـزاء ........................سليمة انه سا ماجـزاني
اعـلمه الرماية كـل يوم .......................فـلما اشتد ساعده رماني
فلا ظفرت يداه حين يرمي ........................وشلة منه حـاملة البناني
فـبكوا يابني علي حـولا .....................ورثوني وجازوا من رماني . ****
وهنا يلاحظ ان مالك اراد ان يعطي سليمة فرصة للهروب من عقاب اخوانه عندما طلب رثائه حولا كاملا ثم محاسبة سليمه وهذه حكمة رائعة
وقال سليمة في ذلك ندما على رمه لابيه انـي رميت بغـير ثـائـرة ................بيت المكارم مـن بني غـنم
ماكـنت فيما قـلت تعـلم ...............من قد احاطت من ذوى الفهم
ولقد رمبت الركب اذا عرضوا ...................بين التليل فـروضة النجـم
فـرميت حـاميهم بـلا علم .................ان ابـن فـهم مالكا ارمـي
فـوددت لو نفع المنـى احدا ..............أنـي هناك اصابني سـهمي
تعتبر معركة سلوت (1). مفخرة من مفاخر التاريخ العسكري العماني، وحسبنا أنها لم تقتصر على نحت أروع ملحمة في سجل تاريخ عمان فحسب، بل شكلت منعطفا هاما في مسار التاريخ العماني، ذلك أن النصر الذي تحقق في هذه المعركة الحاسمة أسفر عن تحرير عمان من الهيمنة الفارسية، وأعطى لهويتها العربية بعدا جديدا.
والورقة التالية لا تسعي إلى سرد تفاصيل أحداث هذه المعركة وجزئياتها لأنها معروفة ومتداولة في جل المراجع التاريخية التي تناولتها إسهاب، بل تهدف في المقام الأول إلى تحليل العوامل التي كانت وراء الانتصار الذي حققه الجنود العمانيون.
وعلى محك هذه الرؤية، ومن خلال تحليل كافة الوقائع والأحداث كما وردت في كتاب (تحفة الأعيان) للمؤرخ العماني الشيخ نور الدين السالمي الذي اعتمد على مختلف الروايات والنصوص الواردة في المصادر التاريخية العمانية (2)، يتبين أن مجموعة من العوامل تضافرت لتحقيق ذلك الانتصار المؤزر، يمكن حصرها فيما يلي:
1- القيادة الواعية والشجاعة:
يجمع الدارسون على أن أسباب النصر في المعارك لا تعزى إلى التفوق في التسلح ووفرة العدة والعتاد فحسب - رغم ما لذلك من أثر في تحديد مصيرها - بل تعود كذلك إلى القيادة الواعية والشجاعة. ولا تعوزنا الأدلة المتعددة والمتنوعة للبرهنة على صحة هذه المقولة في التاريخ الانساني: فكثيرة هي الحروب التي استطاعت الفئة الصغيرة أن تحقق الغلبة على الفئة الكبيرة، ويكفي التذكير في هذا الصدد بمعركة بدر الكبرى وغزوة الأ حزاب (3) وملحمة حطين (4) والقائمة تطول. ومعظم الانتصارات التي سجلها تاريخ الانسانية تؤكد أهمية عنصر القيادة، فبقدر ما تكون هذه الأخيرة على وعي وادراك بخبايا الحروب، مع مسحة من الجرأة والشجاعة، بقدر ما كان ذلك صمام أمن من أية هزيمة محتملة. ولعل نموذج الرسول محمد (ص) وصلاح الدين الأيوبي في التاريخ الاسلامي وهانيبال والأسكندر المقدوني ونابليون وغيرهم من القادة العسكريين العظماء في التاريخ الأوروبي خير دليل على ما نذهب اليه.
من هذه القواعد والتجارب التاريخية، يمكن تفسير الانتصار الساحق الذي حققه الأزد العمانيون في معركة سلوت تحت قيادتهم الشجاعة المتمثلة في مالك بن فهم. ولا غرر فإن المصادر تجمع على بأسه وشجاعته حيث كان يتقدم الصفوف الأولى في الحروب بجرأة نادرة وبسالة ذكرها المؤرخون بإعجاب. وكدليل على ذلك تذكر الروايات المتواترة أنه قبل بدء معركة سلوت، تقدم اليه أربعة قادة من أكابر المرازبة والأساروة الفرس (ممن كان يعد الرجل منهم عن ألف رجـل) (5). وطلبوا منه أن يتقدم اليهم للمبارزة واحدا تلو الأخر، فنهض اليهم بكل جرأة، وتمكن من حصد رؤوسهم جميعا الا الرابع الذي لم ينجه سوى الفرار بعد أن راعه هول قتل زملائه أمام بصره ليرتد مذعورا نحو صفوف الفرس.
وكان الأسلوب القتالي الذي اتبعه مالك بن فهم ينم عن تقنيات فريدة ومستوى عال من التدريب العسكري اذ كان على معرفة دقيقة بقواعد الطعان، وهو ما يفسر قول الشيخ السالمي ابان حديثه عن مواجهته للفارس الثاني من مرازبة الفرس الذين طلبوا منه المبارزة: (ثم حمل الفارس الثاني على مالك وضرب مالكا، فلم تصنع ضربته شيئا، فضربه مالك على مفرق رأسه).(6)، مما يدل على اتقانه لأسلوب الدفاع والهجوم فضلا عن ذلك كان مالك بن فهم يعرف كيف يمتص حماس العدو المهاجم عن طريق الحيلة والذكاء ليحول هجومه إلى اندحار، وهذا ما عبر عنه الشيخ السالمي أيضا ابان حديثه عن صراع مالك بن فهم مع حاكم الفرس - المرزبان - حين قال: (ثم ان المرزبان حمل على مالك بالسيف حملة الأسد الباسل، فراغ عنه مالك روغان الثعلب وعطف عليه بالسيف فضربه على مفرق رأسه). وكانت ضرباته من القوة والبأس ما جعل سيفه يخترق الدرع والبيضة التي كان يلبسها قادة الجيش الفارسي الذي واجههم عن طريق المبارزة الفردية. فعندما قاتل الفارس الثالث أفلح في ضربه على عاتقه فقسمه قسمين. بل انتهى السيف إلى الحصان الذي كان يركبه (فرمى به قطعتين) (7) وهذا تعبير يفسر مدى قوة ضربات مالك بن فهم ويعطي الدليل على شجاعته وبأسه.
وللدلالة على دور شجاعة مالك بن فهم في صنع انتصار معركة سلوت يكفي القول أن المبارزات الفردية التي سبقت المعركة والتي أظهرت فيها ضوربا من البسالة قد أرهبت العدو ومهدت لانتصار الأزد خاصة بعد انتصاره على المرزبان نفسه، فقد فت ذلك في عضد الفرس، في الوقت الذي رفع معنويات الجنود العمانيين، فانطلقوا يثخنون قتلا وأسرا في جنود الفرس ويطاردونهم يمينا وشمالا حتى اضطروا إلى الاستسلام، وهذا يدل على أن شجاعة القائد مالك بن فهم وجنوده كان لها أثر كبير في صنع هذا النصر (
.
2- التخطيط العسكري المحكم:
لقد وعى مالك بن فهم وجنوده الأزد أن حربهم مع الفرس ليست حربا متكافئة، فلم يكن عددهم يتجاوز 8 آلاف مقاتل، بينما وصل عدد الجيش الفارسي إلى 30 أو 40 ألفا حسب اختلاف الروايات، فضلا عن تفوقهم في العدة والعتاد، ولعل هذا ما جعل الفرس يحتقرون مالكا وقومه، فقابلوا طلبه بمنحه أرضا من عمان ليستقر بها بكثير من المهانة والازدراء، بل قادتهم عجرفتهم واعتدادهم بالجيش والأموال إلى رفض أي صيغة من صيغ التعايش معه، لذلك كان على مالك بن فهم أن يعتمد على التخطيط المنظم والبحث عن أفضل الاستراتيجيات العسكرية رغم ضعف العتاد والقوة البشرية لذلك بدأ تنظيمه من خلال الخطوات التالية التي تضمن له الانتصار:
1- تأمين قاعدة عسكرية خلفية وحماية من لا يستطيعون المشاركة في الحرب:
فمنذ هجرته إلى أرض عمان، كان مالك بن فهم يدرك أن معركته مع الفرس أمر لا مفر منه، لذلك بمجرد نزوله في قلهات، بدأ في العمليات الأولية فترك النساء والأطفال والمؤونة في موضع قلهات بشط عمان، ولم يرد أن يزج بهم في هذه المعركة لان ذلك قد يشكل دافعا يشجع الفرس على الاستيلاء على غنائمهم وسبي نسائهم وعيالهم، بل فضل أن يجنبهم ويلات الحرب وترك معهم حامية تقوم بالسهر على أمنهم، وتكون قاعدة خلفية يمكن الرجوع اليها في حالة الهزيمة، وهذه خطوات وقائية تأمينية لا يتبناها إلا القادة المتمرسون في شؤون الحرب.
2 - اجراء التدابير والاستعدادات الأولية اللازمة:
أدرك مالك بن فهم - بحكم خبرته في شؤون الحرب - أن جنوده يحتاجون قبل بداية المعركة إلى قسط من الراحة، لذلك أقام بناحية الجوف مدة لم تحددها المصادر. ويغلب على الظن أنها دامت عدة أيام، بعيدا عن عيون الفرس بدليل أنهم بنوا خلال هذه المدة فلجا بأمر من قائدهم عرف باسم فلج مالك، ولا يمكن أن نتصور أن بناء الفلج استغرق مدة قصيرة. وبناء الفلج في حد ذاته يحمل مغزى عسكريا لا يدركه الا الراسخون في أمور الحرب، ذلك أن الجيش يحتاج إلى الماء مصدر الحياة، وتلك حقيقة لم تغب عن مالك بن فهم. ولا يخامرنا شك في أن توفير الماء والراحة للجنود الأزد قبل بداية المعركة ساهم بنصيب وافر في صنع الانتصار.
3- ملاءمة موقع المعركة:
لا جدال في أن الموقع يؤثر دوما على أحداث التاريخ. ومن هذا المنظور لا نتردد في القول بأن الموقع ساهم بدوره في انتصار الأزد العمانيين، فموضع سلوت الذي وقعت فيه المعركة عبارة عن صحراء والصحراء هي المكان الملائم الذي اعتاد العرب على خوض الحروب فيه، فطبيعتها القاسية كانت من الأمور المألوفة لدى الأزد، بينما كان هذا المجال من البيئة يعاكس الجيش الفارسي الذي اعتاد على المناطق الأقل حرارة، ولم تكن لديهم الخبرة في حروب البيئة الصحراوية، لذلك سرعان ما أخذ بهم التعب والاجهاد كل مأخذ وانهارت معنوياتهم، مما ساهم في هزيمتهم.
4- التنظيم والتعبئة في صفوف الجيش:
قبل بداية المعركة اهتم مالك بن فهم بتسليح جيشه وتجهيزه أحسن تجهيز وتمكينه من السيوف والخيول والدروع وأكمة الحديد والبيض والجواشن. وكلها أسلحة هجومية ودفاعية أيضا تحسبا لأي طاريء، بعيدا عن الغرور والثقة العمياء، وكان هو شخصيا يلبس غلالة حمراء وعمامة صفراء.. ثم بدأ بتوزيع الجنود إلى كتائب، في جعل لكل كتيبة راية. وأخذ يمر عليها واحدة تلو الأخرى ليضع اللمسات الأخيرة، وهذا يدل على حرصه الدقيق على نجاح التعبئة في صفوف الجيش. ورغم أن المرزبان كان هو الآخر يقوم بتعبئة جيشه بالنفخ في الأبواق والضرب على الطبول اذكاء لحماسهم، فإن ذلك لم يجد نفعا لانهيار معنوياتهم وعدم وضوح الهدف الذي يقاتلون من أجله، إذ كانوا محتلين لأرض ليست أرضهم، لذلك لم تفلح الطبول في إذكاء الحمية التي تشحذ الهمم، على عكس الجيش العماني الذي كان جمرة متقدة من شدة الحماس للذوذ عن وطنه وأرضه التي اغتصبها الفرس، فكانت معنوياتهم مرتفعة إلى أقصى الحدود.